اشبع أكل، متشبعش اكتشاف!

هل حلاوة الجبن حمصية أم حموية؟ سؤالٌ لطالما تردّد صدّاه بين السّوريّين، وفي حين أنّ إجابته شبه محسومة بنظر البعض، فهو موضع تساؤل بالنسبة للآخر، بالتّحديد لدى الجيل الجديد. سواء في أروقة الجامعات، أو على وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتّى في مدن الاغتراب حول العالم، يعيش الطبق ما يُشبه أزمة الهويّة بعض الأحيان. البعض ينسبها إلى حماه بسبب أصولها العريقة، وفي المقابل يعزوها البعض الآخر إلى حمص لأنه تذوّق فيها أشهى حلاوة جبن في حياته، كما وأنّ هنالك من يعيد أصولها إلى لبنان!
فما هو أصل حلاوة الجبن إذًا؟ مهما اختلف السّوريون والعرب على أصل هذه التحلية الشّعبية الرّائعة، والتي لا تدخلُ بيتًا عربيًا إلّا وترى ساكنيه يتلذذون بأكلها، ومهما دارت نقاشات حول أُصول “الملكية الفكرية” لهذا الاختراع اللذيذ البسيط، ستبقى هذه الحلاوة من الحلويات السّورية (أو الشّاميّة بتعبير أشمل) المميزة بنكهاتها، الحمصية والحموية.
بين حمص وحماه.. من ابتكر حلاوة الجبن؟
تدعم مصادر كثيرة أن ابتكار هذه التحلية المميزة لأوّل مرّة يعود فعليًّا إلى حماه، وتحديدًا إلى عائلة “سلّورة” الحمويّة، وكان ذلك قبل حوالي أكثر من 70 سنة. ويرجع سبب ذلك إلى أنّ”الحمويّة (أهل حماة)” كانوا أوّل من سطّر كرات الشرائح الملفوفة والمحشوّة بالجبن نظرًا لغِنى ريف حماه بمنتجات الدُّر من الألبان والأجبان والحليب والقشطة. من ذلك الحين، غدت الحلاوة واحدة من أبرز معالم حماة على الإطلاق، ويرتبط ذكر المدينة بها في أذهان غالبيّة السّوريّين، ربّما بدرجة تضاهي شهرة نواعير العاصي!
أما حمص، فغالبًا ما تُعزى شهرتها الواسعة بحلاوة الجبن لكونها المدينة التي تتوسّط بلاد الشّام، ومنها يمرّ أغلب المسافرين بين المدن الكبرى والأرياف، لذا فأكلة الحلويات الأولى التي يتسوّقونها كهدية مميزة ومحببة لقلوب وبطون غالبيّة السوريين، هي حلاوة الجبن.
يشيع أيضًا لدى البعض أن يكون أصل هذا الطبق من مكان مغاير تمامًا؛ إذ تتحدث بعض الروايات عن كونها طرابلسية من لبنان، فيُقال إنّ أحد أهالي سوريا قد تعلّمها من أهالي طرابلُس منذ مئة عام تقريبًا، ثم طوّرها لاحقًا في سوريا إلى أن أصبحت على ما هي عليه اليوم.
لكن ليس ببعيد عن حماة أيضًا، تبدو فكرة الأصول الحلبيّة لحلاوة الجبن مقنعة جدًّا في عقول كثير من السّوريّين، من أهل حلب بدرجة أكبر، بالأخصّ كبار السّنّ منهم. حيث تقول “الأسطورة” إنّ ظهور تلك الوجبة كان عن طريق الصّدفة ضمن أحد المحّال الصّغيرة في أسواق المدينة، والّتي اعتمدت بالدّرجة الأولى على نتاج الرّيف الحمويّ من الحليب والأجبان.

طريقة عمل حلاوة الجبن الحموية
اعتاد الحمويون على تحضير المواد الأولية اللازمة؛ الحليب والسكر والسّميد، ثمّ خلط تلك المكونات ووضعها لتُسخّن على النار مدة معينة، وبعدها تُترك خمس دقائق لتبرد. ثم يُضاف بعض الجُبن البلدي للخليط، ويُترك خمس دقائق أخرى بينما يتم تحريكه ومزجه بالخليط حتى تذوب الجبنة بشكل كامل.
تُمدّ هذه العجينة على صوانٍ واسعة محدّبة، وتُقطّع إلى رقائق سميكة، وهنا يختلف أهل الذّوق الرّفيع في نوعين لحلاوة الجُبن؛ فإما أن تُترك “سادة” ويوضع القطر فوقها وتُؤكل كما هي العجينة، أو تُحشى – وهو النوع الأكثر شيوعًا – بالقشطة العربية وتُقطّع إلى لفائف وتُغلّف بالقطر الثقيل اللذيذ. غالبًا ما يُرَشّ الفستق الحلبي على سطح حلاوة الجبن.
يُعتبر هذا الطبق صنفًا يوميًّا يجب تناوله مباشرةً، وعدم تركه لعدة ساعات حتى يُؤكل، حيث لا تحتمل التخزين أكثر من 10 ساعات في فصل الصيف. أمّا في الشتاء، فيمكن تركها يومًا كاملًا (24 ساعة) لا أكثر، ويُنصح بها كنوع حلويات غنيّ بمكونات مفيدة؛ حيث تحتوي حلاوة الجبن على نسبة مرتفعة من البروتينات والدّهون لوجود الحليب والجبنة فيها.
في الصيف، لحلاوة الجبن طعمٌ مختلف..
ننتظر الصيف لنتناول البوظة الباردة اللذيذة بالنكهة والطعم الذي نحب؛ فراولة وحليب وشوكولا وبوظة بالأوريو والفانيليا، فما بين البوظة وحلاوة الجبن ماذا سنختار؟ هل الحلاوة التي نعشقها لذيذة وملائمة لأي وقت؟ أم البوظة التي لا يمكننا تناولها إلا في الصيف؟ ما رأيك بتناولها والبوظة سويًا؟
لا نقصد أن تتناول الطبقين كلًّا على حِدة، بل نقصد أن تتناول “حلاوة الجبن بالبوظة العربية”، نعم، تناول الحلاوة المحشية أو السادة، مضافٌ إليها البوظة العربية الفاخرة، مع القليل من المكسرات، يُمكن أن تصنع وجبة الحلويات هذه يومك في الصيف.
حلاوة الجبن… عالميّة!
بعدما أن كانت شهرتها مقتصرة على حماة وحمص وجوارهما فقط في بداية ابتكارها، سافر هذا الطبق إلى مختلف دول العالم الّتي لم تكن قد سمعت بهذا النوع من الحلويات من قبل، مرتحلة أينما حلّ السّوريّون، الّذين ساهموا خلال أكثر من 10 سنوات مضت في نقلِ هذا التراث إلى الخارج بكلّ عبقه وأصالته.
ووصلت حتى إلى ألمانيا عندما افتتح عددٌ من السوريين هناك محال حلويات وصنعوها للألمانيين، وفي السويد، قيل أن رئيس الوزراء السّابق، ستيفان لوفين، تناولها منذ عدة أعوام، وطالب الشّيف الذي قدمها بمقادير تلك الوصفة. كما انتقلت حلاوة الجبن إلى فرنسا وهولندا ومناطق أخرى من العالم.

أيّا كانت حلاوة الجبن حمصيّة أم حمويّة، أو مهما كانت أصلها الحقيقيّ، فهي دون شكّ واحدة من أفخم حلويّات المطبخ العربيّ عمومًا والسّوريّ خصوصًا، بمكوّنات بسيطة لا تحتاج سوى إلى براعة وإبداع من يُحضّرها، وستستمرّ لعهد طويل من الزّمان باعتبارها من أكثر أنواع الحلويّات تميّزًا ولذّة.