اشبع أكل، متشبعش اكتشاف!

“بطبخها ورق أم ناعمة؟، بحُطّ بصل وخلّ أو بصل وليمون حامُض؟”
هذه بعض الجُمل التي يمكن أن تسمعها عندما يتم التحضير لحساء الملوخية اللذيذ.
الملوخية عُشبة خضراء تُطبخ بشكل وفير إما على شكل حساء إلى جانب صحن من الأرز، أو يطبخها البعض “ناشفة” بدون حساء، وتُسمى في كثير من المناطق “أكلة الملوك”، لشهرتها والطابع الفخم الذي تأخذه عندما تُحضّر، خاصّةً أنها تُعتبر من الأطعمة الفخمة ذات التاريخ الطويل، بحسب ما يُقال.
وعلى الرغم من ذلك، تبدو الملوخية بالنسبة للبعض الآخر حساءً أخضرًا لزجًا ومثيرًا للاشمئزاز، إذ تُفرز أوراق الملوخية أثناء طبخها سائلًا مخاطيًا يُبعد البعض عن تناولها بشكل كامل، ولكن يُعتبر هؤلاء نسبة قليلة مقارنةً بمحبّي الملوخية حول العالم.
سنقدم هنا لمحة عن تاريخ الملوخية، كيف بدأت هذه الأكلة وأين اشتُهرت، ولمَ اقتصر أكلُها سابقًا على الملوك؟
هل أنت في اسطنبول وخطرت الملوخية على بالك؟ ولايهمك، يمكنك الطلب مباشرة من أحد المطاعم السورية أو المصرية الموجودة في اسطنبول عبر تطبيق جوعان.
تاريخ الملوخية
يرى معظم العلماء والمؤرخين أن أصول الملوخية ترجع إلى مصر القديمة، إلا أن هناك أيضًا أدلة تشير أن الهند هي مصدر نبتة الملوخية المعروفة هناك باسم Corchorus Capsularis.
عمومًا، الملوخية أكلة مشهورة في العالم العربي منذ العصور الوسطى، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل تحظى بشعبية كبيرة في شرق وشمال وغرب إفريقيا، وقد ذُكرت الوصفة الأولى لكيفية تحضيرها في الكتاب العربي “كنز الفوائد في تنويع الموائد” الذي يرجع تاريخ وجوده إلى القرن الرابع عشر.
يُعتبر طبق الملوخية من الأكلات الرئيسية والمفضلة في كثير من البلدان العربية، منها مصر وبلاد الشام والمغرب وتونس والجزائر والسودان، وقد سافرت عالميًا حتى وصلت إلى المطبخ الياباني والكيني! ولكن على ما يبدو، فإن تاريخ الملوخية بدأ من مصر قبل أن يصل إلى أي مطبخ آخر.
الملوخية هي إحدى الأكلات الرائجة جدًا في مصر، ويحبها المصريون جدًا حيث تُعتبر طبقًا أساسيًا ووجبةً دسمة، فيأكلونها إلى جانب الأرز، أو حتى مغمّسةً مع “العيش”، والبعض يحتسيها شربًا فقط. وفي حين أنّ هنالك العديد من المناطق التي تشتهر بصُنع الملوخية وتنسبها إليها، إلا أنه لا أحد يمكنه منازعة مصر عليها، ثقافيًا وكأكلة شعبية، فكلّ الدلائل تشير إلى مصريّة هذه الوجبة، ومهارة الشعب المصري في صنعها، إلا أن تاريخها في مصر لم يكن حافلًا في بدايته، فقد نازع الملوك عامة الشعب، ومنعوهم من أكلها لتكون وجبتهم الحصرية لهم فقط.

هناك رواية عن بداية معرفة الملوخية عند القدماء المصريين (الفراعنة)، وتقول أن هؤلاء قد رؤوا أوراق الملوخية تنمو للمرة الأولى على ضفاف نهر النيل، وقد كانوا يعرفونها باسم “خيّة”، إلا أنهم لم يأكلوها لاعتقادهم أنها سامة، إلى أن احتل الهكسوس مصر، وأجبروهم على تناول “الخية” على اعتبار أنها نبتة سامة، وبعدما تناولها المصريون، لم يموتوا، واتخذوها غذاءً لذيذًا فيما بعد.
كما نعلم، تُحضر الملوخية خضراء طازجة أو مجففة، ولكن هاتين الطريقتين هما الخطوة الأولى التي تفكر فيها عندما تقرر طبخ الملوخية، إنما في حقيقة الأمر، تُطبخ الملوخية في مصر بعد طرق! في القاهرة على سبيل المثال، تؤكل خضراء بعد خرطها، وفي النوبة، تُطبخ بدون خرط، وتُضاف لها البامية الناشفة، أما في الصعيد، فتُطبخ بغير طريقة تمامًا؛ حيث تُحضّر على البارد، وتُضاف الشطة إليها بكميات كبيرة.
لمَ تُسمى الملوخية بأنها “طعام ملوكي”؟
قطعت الملوخية شوطًا طويلًا لتصل من بلاط القصور إلى عامة الشعب المصري. الحقيقة هي أن تسمية الملوخية بـ “الملوكية” ترجع إلى عهد الفاطميين في مصر، حيث شيع أن الحاكم الفاطمي المعز لدين الله، قد عانى من ألم شديد في معدته، فوصف الأطباء له “الملوخية” كعلاج، وبالفعل، شُفي المعز لدين الله بعد تناول الملوخية، وبعد ذلك، رأى هذا الحاكم أن يحصر الأكلة المفيدة بينه وحاشيته، أي أن تصبح أكلة الملوك فقط، وبالفعل تم ذلك.

وفي رواية أخرى، وفقًا للمؤرّخ المصري تقي الدين المقريزي، فقد كانت الملوخية هي الطبق المفضّل للخليفة معاوية بن أبي سفيان، ولكن في فترة ما من حُكم خليفة مصر الفاطمي السادس الحاكم بأمر الله، أصدر مرسومًا يمنع فيه رعاياه من تناول الملوخية، بسبب اعتقاده في ذاك الوقت أن هذه الأكلة مثيرة للشهوة الجنسية، والبعض يقول أن هذا الحاكم أراد الاستئثار بهذه الأكلة لنفسه لأنه أحبها جدًا، فأشاع بين شعبه أن نبات الملوخية سام، ولكن فيما بعد، خَلَف الحاكم بأمر الله الخليفة الظاهر، والذي تبين أنه سمح لأتباعه بتناول الملوخية مرة أخرى بدون عواقب.
كيف يختلف طبخ الملوخية حول العالم؟
تُحضّر أوراق الملوخية عمومًا في مرق الدجاج أو لحم الضأن أو لحمة الأرانب، ولكن باختلاف طفيف في طريقة طهي الطبق في المناطق المختلفة، قد تجعله يبدو وكأنه يختلف تمامًا من مكان آخر.
مثلًا، بالنسبة للملوخية المصرية، تُزال الأوراق من الأعواد، وتُجفف النبتة جيدًا، وتُقطع الأوراق بشكل ناعم باستخدام أداة المخرطة، وغالبًا ما يُستخدم لحم الدجاج أو الأرانب للطهي. يُسلق اللحم لتحضير المرق، ويُضاف إليه البصل وورق الغار والملح وبهارات أخرى، وبعد نضج اللحم، يُزاح جانبًا وتُرمى الملوخية في السائل. تتميز الملوخية المصرية بإعداد الطشة أو التقلية؛ المكونة من الزبد والثوم والكزبرة الناعمة، التي تُضاف في النهاية إلى الوجبة، وتُقدم ساخنة لوحدها أو مع الأرز.

أما عن الملوخية في سوريا، فلا يتم تقطيع الأوراق أبدًا، بل ويُضاف عصير الليمون الحامض للطبق كي يخفف من السماكة واللزوجة. تُغسل الملوخية وتُضفى وتُقلّى بالزيت النباتي مع الثوم والبهارات اللازمة، ثم يُضاف الماء وتُترك لتنضج. يُسلق الدجاج ويُضاف إلى الملوخية أيضًا، وتُقدم ساخنة مع الأرز.
في تونس، تُجفف الملوخية وتُطحن لتصبح مسحوقًا ناعمًا، ويستغرق إعداد الطبق حوالي 5 إلى 7 ساعات. تختلف الملوخية التونسية أيضًا بإضافة زيت الزيتون ورب البندورة، ويُضاف اللحم في منتصف عملية الطهي. تُغلى ليُصبح القوام كثيفًا، وتُقدم مع الخبز الإيطالي أو الفرنسي.
في كينيا، تُطبخ الملوخية مع الخضار الأخرى مثل أوراق اللوبيا، وذلك لتقليل اللزوجة، وتُعرف باسم “لوهيا”. أما في قبرص، فتُسمى “الملوحية”، وتُظهى مع الليمون والبطاطس للحفاظ على القوام من اللزوجة والقوام المخاطي.
وفي اليابان، تُضاف الملوخية إلى النودلز، حيث شقّت هذه الوجبة طريقها إلى المطبخ الياباني من خلال الزوار من الشرق الأوسط، وتُعرف في اليابان باسم “Moroheiya”، وتُستخدم على شكل “مسحوق الملوخية” لاسخدامها كنكهة مُضافة إلى المعكرونة. تُضاف إلى بعض الأطباق أيضًا في اليابان، كبديل للأعشاب البحرية.
الملوخية طبق غريب المظهر، قد لا يرضي العين تمامًا من النظرة الأولى، ولكنه سيجعلك على الفور تذوب عشقًا في الطّعم والرّائحة الشهيّة، ومذاق السائل الساخن من اللقمة الأولى.